فصل: تفسير الآيات (157- 158):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (154):

{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)}
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً} الأمنة والأمن سواء.
وقيل: الأمنة إنما تكون مع أسباب الخوف، والأمن مع عدمه. وهي منصوبة ب {أَنْزَلَ} و{نُعاساً} بدل منها.
وقيل: نصب على المفعول له، كأنه قال: أنزل عليكم للامنة نعاسا. وقرأ ابن محيصن {أمنة} بسكون الميم. تفضل الله تعالى على المؤمنين بعد هذه الغموم في يوم أحد بالنعاس حتى نام أكثرهم، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام. روى البخاري عن أنس أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه. {يغشى} قرئ بالياء والتاء. الياء للنعاس، والتاء للامنة. والطائفة تطلق على الواحد والجماعة. {وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} يعني المنافقين: معتب بن قشير وأصحابه، وكانوا خرجوا طمعا في الغنيمة وخوف المؤمنين فلم يغشهم النعاس وجعلوا يتأسفون على الحضور، ويقولون الأقاويل. ومعنى: {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} حملتهم على الهم، والهم ما هممت به، يقال: أهمني الشيء أي كان من همي. وأمر مهم: شديد. وأهمني الامر: أقلقني: وهمني: أذابني. والواو في قوله: {وَطائِفَةٌ} واو الحال بمعنى إذ، أي إذ طائفة يظنون أن أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باطل، وأنه لا ينصر. {ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ} أي ظن أهل الجاهلية، فحذف. {يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} لفظه استفهام ومعناه الجحد، أي ما لنا شيء من الامر، أي من أمر الخروج، وإنما خرجنا كرها، يدل عليه قوله تعالى إخبارا عنهم: {لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا}. قال الزبير: أرسل علينا النوم ذلك اليوم، وإني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول: لو كان لنا من الامر شيء ما قلنا ها هنا.
وقيل: المعنى يقول ليس لنا من الظفر الذي وعدنا به محمد شي. والله أعلم.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} قرأ أبو عمرو ويعقوب {كُلَّهُ} بالرفع على الابتداء، وخبره {بِاللَّهِ}، والجملة خبر {إِنَّ}. وهو كقوله: {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60]. والباقون بالنصب، كما تقول: إن الامر أجمع لله. فهو توكيد، وهو بمعنى أجمع في الإحاطة والعموم، وأجمع لا يكون إلا توكيدا.
وقيل: نعت للأمر.
وقال الأخفش: بدل، أي النصر بيد الله ينصر من يشاء ويخذل من يشاء.
وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ} يعني التكذيب بالقدر. وذلك أنهم تكلموا فيه، فقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} يعني القدر خيره وشره من الله. {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} أي من الشرك والكفر والتكذيب. {ما لا يُبْدُونَ لَكَ} يظهرون لك. {يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا} أي ما قتل عشائرنا. فقيل: إن المنافقين قالوا لو كان لنا عقل ما خرجنا إلى قتال أهل مكة، ولما قتل رؤساؤنا. فرد الله عليهم فقال: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ} أي لخرج. {الَّذِينَ كُتِبَ} أي فرض. {عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} يعني في اللوح المحفوظ. {إِلى مَضاجِعِهِمْ} أي مصارعهم.
وقيل: {كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} أي فرض عليهم القتال، فعبر عنه بالقتل، لأنه قد يؤول إليه. وقرأ أبو حيوة {لبرز} بضم الباء وشد الراء، بمعنى يجعل يخرج.
وقيل: لو تخلفتم أيها المنافقون لبرزتم إلى موطن آخر غيره تصرعون فيه حتى يبتلي الله ما في الصدور ويظهره للمؤمنين. والواو في قوله: {وَلِيَبْتَلِيَ} مقحمة كقوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] أي ليكون، وحذف الفعل الذي مع لام كي. والتقدير {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ} فرض الله عليكم القتال والحرب ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم وليمحص عنكم سيئاتكم إن تبتم وأخلصتم.
وقيل: معنى: {لِيَبْتَلِيَ} ليعاملكم معاملة المختبر.
وقيل: ليقع منكم مشاهدة ما علمه غيبا.
وقيل: هو على حذف مضاف، والتقدير ليبتلي أولياء الله تعالى. وقد تقدم معنى التمحيص. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} أي ما فيها من خير وشر.
وقيل: ذات الصدور هي الصدور، لأن ذات الشيء نفسه.

.تفسير الآية رقم (155):

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)}
قوله تعالى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا} هذه الجملة هي خبر {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا} والمراد من تولى عن المشركين يوم أحد، عن عمر رضي الله عنه وغيره. السدي: يعني من هرب إلى المدينة في وقت الهزيمة دون من صعد الجبل.
وقيل: هي في قوم بأعيانهم تخلفوا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وقت هزيمتهم ثلاثة أيام ثم انصرفوا. ومعنى: {اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ} استدعى زللهم بأن ذكرهم خطايا سلفت منهم، فكرهوا الثبوت لئلا يقتلوا.
وهو معنى: {بِبَعْضِ ما كَسَبُوا} وقيل: {اسْتَزَلَّهُمُ} حملهم على الزلل، وهو استفعل من الزلة وهي الخطيئة.
وقيل: زل وأزل بمعنى واحد. ثم قيل: كرهوا القتال قبل إخلاص التوبة، فإنما تولوا لهذا، وهذا على القول الأول. وعلى الثاني بمعصيتهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تركهم المركز وميلهم إلى الغنيمة.
وقال الحسن: {ما كَسَبُوا} قبولهم من إبليس ما وسوس إليهم.
وقال الكلبي: زين لهم الشيطان أعمالهم.
وقيل: لم يكن الانهزام معصية، لأنهم أرادوا التحصن بالمدينة، فيقطع العدو طمعه فيهم لما سمعوا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل. ويجوز أن يقال: لم يسمعوا دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للهول الذي كانوا فيه. ويجوز أن يقال: زاد عدد العدو على الضعف، لأنهم كانوا سبعمائة والعدو ثلاثة آلاف. وعند هذا يجوز الانهزام ولكن الانهزام عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطأ لا يجوز، ولعلهم توهموا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انحاز إلى الجبل أيضا. وأحسنها الأول. وعلى الجملة فإن حمل الامر على ذنب محقق فقد عفا الله عنه، وإن حمل على انهزام مسوغ فالآية فيمن أبعد في الهزيمة وزاد على القدر المسوغ.
وذكر أبو الليث السمرقندي نصر بن محمد بن إبراهيم قال: حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا السراج قال حدثنا قتيبة قال حدثنا أبو بكر بن غيلان عن جرير: أن عثمان كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتسبني وقد شهدت بدرا ولم تشهد، وقد بايعت تحت شجرة ولم تبايع، وقد كنت تولى مع من تولى يوم الجمع، يعني يوم أحد. فرد عليه عثمان فقال: أما قولك: أنا شهدت بدرا ولم تشهد، فإني لم أغب عن شيء شهده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا أن بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت مريضة وكنت معها أمرضها، فضرب لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سهما في سهام المسلمين، وأما بيعة الشجرة فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثني ربيئة على المشركين بمكة- الربيئة هو الناظر- فضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمينه على شماله فقال: «هذه لعثمان» فيمين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشماله خير لي من يميني وشمالي. وأما يوم الجمع فقال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} فكنت فيمن عفا الله عنهم. فحج عثمان عبد الرحمن.
قلت: وهذا المعنى صحيح أيضا عن ابن عمر، كما في صحيح البخاري قال: حدثنا عبدان أخبرنا أبو حمزة عن عثمان بن موهب قال: جاء رجل حج البيت فرأى قوما جلوسا فقال: من هؤلاء القعود؟ قالوا: هؤلاء قريش. قال: من الشيخ؟ قالوا: ابن عمر، فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء أتحدثني؟ قال: أنشدك بحرمة هذا البيت، أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد؟ قال: نعم. قال: فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال نعم. قال: فكبر. قال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه. وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانت مريضة، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن لك أجر رجل من شهد بدرا وسهمه». وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه، فبعث عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده اليمنى: «هذه يد عثمان» فضرب بها على يده فقال: «هذه لعثمان». اذهب بهذا ألان معك.
قلت: ونظير هذه الآية توبة الله على آدم عليه السلام. وقوله عليه السلام: «فحج آدم موسى» أي غلبه بالحجة، وذلك أن موسى عليه السلام أراد توبيخ آدم ولومه في إخراج نفسه وذريته من الجنة بسبب أكله من الشجرة، فقال له آدم: «أفتلومني على أمر قدره الله تعالى علي قبل أن أخلق بأربعين سنة تاب علي منه ومن تاب عليه فلا ذنب له ومن لا ذنب له لا يتوجه عليه لوم». وكذلك من عفا الله عنه. وإنما كان هذا لاخباره تعالى بذلك، وخبره صدق. وغيرهما من المذنبين التائبين يرجون رحمته ويخافون عذابه، فهم على وجل وخوف ألا تقبل توبتهم، وإن قبلت فالخوف أغلب عليهم إذ لا علم لهم بذلك. فأعلم.

.تفسير الآية رقم (156):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)}
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} يعني المنافقين. {وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ} يعني في النفاق أو في النسب في السرايا التي بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بئر معونة. {لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا} فنهي المسلمون أن يقولوا مثل قولهم. وقوله: {إِذا ضَرَبُوا} هو لما مضى، أي إذ ضربوا، لأن في الكلام معنى الشرط من حيث كان {الَّذِينَ} بهما غير موقت، فوقع {إِذا} موقع {إذ} كما يقع الماضي في الجزاء موضع المستقبل. ومعنى: {ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} سافروا فيها وساروا لتجارة أو غيرها فماتوا. {أَوْ كانُوا غُزًّى} غزاة فقتلوا. والغزي جمع منقوص لا يتغير لفظها في رفع وخفض، واحدهم غاز، كراكع وركع، وصائم وصوم، ونائم ونوم، وشاهد وشهد، وغائب وغيب. ويجوز في الجمع غزاة مثل قضاة، وغزاء بالمد مثل ضراب وصوام. ويقال: غزى جمع الغزاة. قال الشاعر:
قل للقوافل والغزي إذا غزوا

وروي عن الزهري أنه قرأه {غُزًّى} بالتخفيف. والمغزية المرأة التي غرا زوجها. وأتان مغزية متأخرة النتاج ثم تنتج. وأغزت الناقة إذا عسر لقاحها. والغزو قصد الشيء. والمغزى المقصد. ويقال في النسب إلى الغزو: غزوى.
قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} يعني ظنهم وقولهم. واللام متعلقة بقوله: {قالُوا} أي ليجعل ظنهم أنهم لو لم يخرجوا ما قتلوا. {حَسْرَةً} أي ندامة {فِي قُلُوبِهِمْ}. والحسرة الاهتمام على فائت لم يقدر بلوغه، قال الشاعر:
فوا حسرتى لم أقض منها لبانتي ** ولم أتمتع بالجوار وبالقرب

وقيل: هي متعلقة بمحذوف. والمعنى: لا تكونوا مثلهم {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ} القول: {حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} لأنهم ظهر نفاقهم.
وقيل: المعنى لا تصدقوهم ولا تلتفتوا إليهم، فكان ذلك حسرة في قلوبهم.
وقيل: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} يوم القيامة لما هم فيه من الخزي والندامة، ولما فيه المسلمون من النعيم والكرامة.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي يقدر على أن يحيي من يخرج إلى القتال، ويميت من أقام في أهله. {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قرئ بالياء والتاء. ثم أخبر تعالى أن القتل في سبيل الله والموت فيه خير من جميع الدنيا.

.تفسير الآيات (157- 158):

{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)}
جواب الجزاء محذوف، استغني عنه بجواب القسم في قوله: {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ} وكان الاستغناء بجواب القسم أولى، لأن له صدر الكلام، ومعناه ليغفرن لكم. وأهل الحجاز يقولون: متم، بكسر الميم مثل نمتم، من مات يمات مثل خفت يخاف. وسفلي مضر يقولون: متم، بضم الميم مثل صمتم، من مات يموت. كقولك كان يكون، وقال يقول. هذا قول الكوفيين وهو حسن. وقوله: {لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} وعظ. وعظهم الله بهذا القول، أي لا تفروا من القتال ومما أمركم به، بل فروا من عقابه وأليم عذابه، فإن مردكم إليه لا يملك لكم أحد ضرا ولا نفعا غيره. والله سبحانه وتعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (159):

{فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)}
{فَبِما} صلة فيها معنى التأكيد، أي فبرحمة، كقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40] {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ} [النساء: 155] {جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ} [ص: 11]. وليست بزائدة على الإطلاق، وإنما أطلق عليها سيبويه معنى الزيادة من حيث زال عملها. ابن كيسان: {فَبِما} نكرة في موضع جر بالباء {ورَحْمَةٍ} بدل منها. ومعنى الآية: أنه عليه السلام لما رفق بمن تولى يوم أحد ولم يعنفهم بين الرب تعالى أنه إنما فعل ذلك بتوفيق الله تعالى إياه.
وقيل: {فَبِما} استفهام. والمعنى: فبأي رحمة من الله لنت لهم، فهو تعجيب. وفيه بعد، لأنه لو كان كذلك لكان {فبم} بغير ألف. {لِنْتَ} من لان يلين لينا وليانا بالفتح. والفظ الغليظ الجافي. فظظت تفظ فظاظة وفظاظا فأنت فظ. والأنثى فظة والجمع أفظاظ.
وفي صفة النبي عليه السلام ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق وأنشد المفضل في المذكر:
وليس بفظ في الأداني والأولى ** يؤمون جدواه ولكنه سهل

وفظ على أعدائه يحذرونه ** فسطوته حتف ونائله جزل

وقال آخر في المؤنث:
أموت من الضر في منزلي ** وغيري يموت من الكظة

ودنيا تجود على الجاهلي ** ن وهي على ذي النهى فظه

وغلظ القلب عبارة عن تجهم الوجه، وقلة الانفعال في الرغائب، وقلة الإشفاق والرحمة، ومن ذلك قول الشاعر:
يبكى علينا ولا نبكي على أحد ** لنحن أغلظ أكبادا من الإبل

ومعنى: {لَانْفَضُّوا} لتفرقوا، فضضتهم فانفضوا، أي فرقتهم فتفرقوا، ومن ذلك قول أبي النجم يصف إبلا:
مستعجلات القيض غير جرد ** ينفض عنهن الحصى بالصمد

وأصل الفض الكسر، ومنه قولهم: لا يفضض الله فاك. والمعنى: يا محمد لولا رفقك لمنعهم الاحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم.
قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} الأولى: قال العلماء: أمر الله تعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة، فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر فيما لله عليهم من تبعة أيضا، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلا للاستشارة في الأمور. قال أهل اللغة: الاستشارة مأخوذة من قول العرب: شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها بجري أو غيره. ويقال للموضع الذي تركض فيه: مشوار. وقد يكون من قولهم: شرت العسل واشترته فهو مشور ومشتار إذا أخذته من موضعه، قال عدي بن زيد:
في سماع يأذن الشيخ له ** وحديث مثل ماذي مشار

الثانية: قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. هذا ما لا خلاف فيه. وقد مدح الله المؤمنين بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. قال أعرابي: ما غبنت قط حتى يغبن قومي، قيل:
وكيف ذلك؟ قال لا أفعل شيئا حتى أشاورهم.
وقال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، وجوه والناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها. وكان يقال: ما ندم من استشار. وكان يقال: من أعجب برأيه ضل.
الثالثة: قوله تعالى: {وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} يدل على جواز الاجتهاد في الأمور والأخذ بالظنون مع إمكان الوحي، فإن الله أذن لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك. واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أمر الله نبيه عليه السلام أن يشاور فيه أصحابه، فقالت طائفة: ذلك في مكايد الحروب، وعند لقاء العدو، وتطييبا لنفوسهم، ورفعا لأقدارهم، وتألفا على دينهم، وإن كان الله تعالى قد أغناه عن رأيهم بوحيه. روي هذا عن قتادة والربيع وابن إسحاق والشافعي. قال الشافعي: هو كقوله: «والبكر تستأمر» تطيبا لقلبها، لا أنه واجب.
وقال مقاتل وقتادة والربيع: كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الامر شق عليهم: فأمر الله تعالى، نبيه عليه السلام أن يشاورهم في الامر: فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لاضغانهم، وأطيب لنفوسهم. فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم.
وقال آخرون: ذلك فيما لم يأته فيه وحي. روي ذلك عن الحسن البصري والضحاك قالا: ما أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدى به أمته من بعده.
وفي قراءة ابن عباس: {وشاورهم في بعض الامر} ولقد أحسن القائل:
شاور صديقك في الخفي المشكل ** واقبل نصيحة ناصح متفضل

فالله قد أوصى بذاك نبيه ** في قوله: شاوِرْهُمْ وفَتَوَكَّلْ

الرابعة: جاء في مصنف أبي داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المستشار مؤتمن». قال العلماء: وصفه المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالما دينا، وقلما يكون ذلك إلا في عاقل. قال الحسن: ما كمل دين امرئ ما لم يكمل عقله. فإذا استشير من هذه صفته واجتهد في الصلاح وبذل جهده فوقعت الإشارة خطأ فلا غرامة عليه، قاله الخطابي وغيره.
الخامسة: وصفه المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلا مجربا وادا في المستشير. قال:
شاور صديقك في الخفي المشكل

وقد تقدم.
وقال آخر:
وإن باب أمر عليك التوى ** فشاور لبيبا ولا تعصه

في أبيات. والشورى بركة.
وقال عليه السلام: «ما ندم من استشار ولا خاب من استخار».
وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما شقي قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأي».
وقال بعضهم: شاور من جرب الأمور، فإنه يعطيك من رأيه ما وقع عليه غاليا وأنت تأخذه مجانا. وقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة- وهي أعظم النوازل- شورى. قال البخاري: وكانت الأئمة بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها.
وقال سفيان الثوري: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة، ومن يخشى الله تعالى.
وقال الحسن: والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم لأفضل ما يحضر بهم. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوه في مشورتهم إلا خير لهم».
السادسة: والشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف، وينظر أقربها قولا إلى الكتاب والسنة إن أمكنه، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلا عليه، إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب، وبهذا أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية.
السابعة: قوله تعالى: {فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} قال قتادة: أمر الله تعالى نبيه عليه السلام إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله، لا على مشاورتهم. والعزم هو الامر المروي المنقح، وليس ركوب الرأي دون روية عزما، إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب، كما قال:
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ** ونكب عن ذكر العواقب جانبا

ولم يستشر في رأيه غير نفسه ** ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا

وقال النقاش: العزم والحزم واحد، والحاء مبدلة من العين. قال ابن عطية: وهذا خطأ، فالحزم جودة النظر في الامر وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه. والعزم قصد الإمضاء، والله تعالى يقول: {وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ}. فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم. والعرب تقول: قد أحزم لو أعزم. وقرأ جعفر الصادق وجابر بن زيد: {فَإِذا عَزَمْتَ} بضم التاء. نسب العزم إلى نفسه سبحانه إذ هو بهدايته وتوفيقه، كما قال: {وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى} [الأنفال: 17]. ومعنى الكلام أي عزمت لك ووفقتك وأرشدتك {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}. والباقون بفتح التاء. قال المهلب: وامتثل هذا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمر ربه فقال: «لا ينبغي لنبي يلبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله». أي ليس ينبغي له إذا عزم أن ينصرف، لأنه نقض للتوكل الذي شرطه الله عز وجل مع العزيمة. فلبسه لامته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أشار عليه بالخروج يوم أحد من أكرمه الله بالشهادة فيه، وهم صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى عدونا، دال على العزيمة. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشار بالقعود، وكذلك عبد الله بن أبي أشار بذلك وقال: أقم يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس، فإن هم أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن جاءونا إلى المدينة قاتلناهم في الأفنية وأفواه السكك، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام، فو الله ما حاربنا قط عدو في هذه المدينة إلا غلبناه، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا. وأبى هذا الرأي من ذكرنا، وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب. فصلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجمعة، ودخل إثر صلاته بيته ولبس سلاحه، فندم أولئك القوم وقالوا: أكرهنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما خرج عليهم في سلاحه قالوا: يا رسول الله، أقم إن شئت فإنا لا نريد أن نكرهك، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا ينبغي لنبي إذا لبس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل».
الثامنة: قوله تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} التوكل: الاعتماد على الله مع إظهار العجز، والاسم التكلان. يقال منه: اتكلت عليه في أمرى، وأصله: اوتكلت قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، ثم أبد لت منها التاء وأدغمت في تاء الافتعال. ويقال: وكلته بأمري توكيلا، والاسم الوكالة بكسر الواو وفتحها. واختلف العلماء في التوكل، فقالت طائفة من المتصوفة: لا يستحقه إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله من سبع أو غيره، وحتى يترك السعي في طلب الرزق لضمان الله تعالى.
وقال عامة الفقهاء: ما تقدم ذكره عند قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]. وهو الصحيح كما بيناه. وقد خاف موسى وهارون بإخبار الله تعالى عنهما في قوله: {لا تَخافا}. وقال: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ} [طه: 67- 68]. وأخبر عن إبراهيم بقوله: {فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ} [هود: 70]. فإذا كان الخليل وموسى والكليم قد خافا وحسبك بهما- فغيرهما أولى. وسيأتي بيان هذا المعنى.